كبرتُ وعرفتُ أنّ ابي قد تزوّج أمّي عن غير حبّ ،يعني على غير معرفة بالحب . فهو يريد إمراةً وهي تريد السترة كما يقال ، فهي قد أكملت سنوات الخدمة في بيت أبيها..

أبي كان عاملا نشيطا محبّا لعمله ، ما عرفت عنه أنه أحب غير ذلك، وأنا طفل مريض …سأروي لكم قصتي المسجّلة في دفترٍ صغير أهداني إياه أستاذي عند نجاحي بتفوّقٍ في تلك السنة .

الأستاذ: الف مبروك يا عيسى أنا فخور بك يا بنيّ…

عيسى: شكرا لك يا أستاذ، ولكن ما هذا؟

الأستاذ: هذا كتاب صغير لتدوين يومياتك يا عيسى ، وكلما تعود إليها ، تذكر هذا اليوم الجميل من حياتك!

عيسى: نعم يا أستاذ ، سأكتب إسمك على أول صفحةٍ منه .

عدتُ ذاك اليوم ورأيتُ والدتي تجلس مهمومةً سارحةً .

عيسى: السلام عليكِ يا أمي

الأم : أهلاً يا عيسى ، تعال يا إبني ، جاء شخص من بيروت يقول أن والدك سيتأخّر هذا الصيف

عيسى: يا الله في كل مرة أخاف أن يأتي الصيف لاني أخاف من هذا الخبر… أمي لماذا يسافر الآباء ويتركون العائلة؟ إشتقتُ له

الأم: حتى يعمل ويأتي لنا بلقمة العيش يا ولدي . هيا إغسل يداك وادخل لأجلب لك الطعام

عيسى : أنا مستعد أن أكتب له رساله أقول له فيها “نحنا لسنا بحاجة لمال كثير! نحن بحاجة إليك يا بابا ، لماذا العمل خارجا….”

أمّي لماذا لا يعمل في أرض جدّي.

الأم: … لا اعرف يا عيسى . هيا تعالَ أخبرني عن المدرسة

عيسى: لماذا لا تقولين شيئا؟

ومنذ ذلك اليوم وأنا أسجّل في يومياتي كل ما أتكلم به مع أستاذي وأمي لعلّي أتذكر كل كلمة قالتها عن أبي ، إعتقد تُ أنّها نسيته ، فهي ما اهتمت مثلي بقدومه ، أو قد تهيّأ لي ذلك .

تلك كانت أول صفحة من الدفتر والآن سأسجل لكم الأخيرة لعلّها تلخّص ما حصل وتعرفون كل شيء . كانت الصفحة الاخيرة قبل نهاية الدفتر…

الأستاذ : يا عيسى لماذا علاماتك متأخرة في المواد التي أدرّسها ؟ لم أكن أحب أن أتكلم معك في هذا وما تصورت أن يحصل ، ماذا يجري يا بني؟

عيسى: لا اعرف أن ادرس في البيت لأن أبي غائب ، وأمي دائما عند جاراتنا، وأنا أدرس وحدي وألم في صدري يزعجني!

الأستاذ: واين الدواء؟ قل لأمّك انك تشعر بهذا…

عيسى: أمّي تقول أن أبي لا يرسل المال كالسابق ، ولا تستطيع شراء الدواء ! فهي تعمل عند جاراتنا

الأستاذ: أنا سأتقصى عن والدك.

رجعتُ للبيت فسمعت صوت عمتي في بيتنا ورجلاً يتكلم معها بلهجةٍ غير لهجة بلدنا ..

الرجل: نحن بحاجة لقدومك إلى بيروت فقط لإنهاء بعض الأوراق

أمّي: هل زوجة السائق على حق بما قالت عنه؟

الرجل: الآن ما حصل قد حصل والمهم هو ماذا نفعل في الأيام المقبلة . أنا عرفت أن عيسى بحاجة إلى دواء كل شهر وأنا مستعد لتأمينه له لمدى الحياة انشاءالله . هذا أقل الواجب يمكنك الإعتماد علينا

العمة: اخي لا يفعل هذه الأشياء المشينة التي ذكروها أليس كذلك؟ والدنا ما ربّانا إلا على الحشمة . فكيف له أن يتعاطى مع راقصة او يزور أمكنة لا تليق بنا ! من اين هذه الأخبار

الرجل: إسمحي لي يا خالتي . لكن أنا رأيته مرة جالساً هناك وهو سكران مع سيّدة وقد قال لي أنّ صديقاً له أعاره بعض التذاكر!

عمتي: ولماذا أنتَ كنت هناك؟

الرجل: على كل حال هذا المبلغ صار من حقّك يا “ست أم عيسى” واعلميني بما تنوين فعله.

أمّي: تبكي بشدّة …

دخلت البيت على صوت أمّي وكان الرجل يهمّ بالخروج ، فضمّني

إليه وقال :

الرجل: أنت عيسى؟ منذ اليوم أنت رجل البيت . نظر اليّ ، إبتسم وخرج

ما رأيت أمّي في حياتي على هذه الحال ، الدموع في عينيها وابتسامة على شفتيها تقبّل المحفظة كأنّها قطعة من أبي، خرجت عمّتي وكالعادة لم افهم ملامحها!

عرفت أنّ أبي سيعود قريبا وقريبا جداً بعد إجراءات روتينية ستجريها أمّي كلماتٌ تقول فيها إنها زوجة المرحوم أبو عيسى” لتستحق المبلغ الذي دُفع من قِبل شركة التأمين حيث أن ابي مات في حادث عمل!

لم أره منذ سنتين ولن أراه عندما يعود تقول أمّي إنه حادثٌ مريع. لكنه سيأتي وليس كما قال نعم هذا الصيف سيأتي أبي يا أستاذ ولن يعود أبداً إلى العمل . سيأتي ومعه مبلغاً كبيرا من المال ما كان ليستطيع أن يجمعه في كل حياته…

سيأتي هذا الصيف . هو لم يأتِ في الصيف الماضي ، ولن يأتِ في الصيف القادم.

إنتهت