كنا أولاداً صغارا وكان يأتي ممسكاً والعصا في يمينه يتكأ عليها يلبس عباءة قديمة

ويضع على أكتافه جاكيت لبدلة حديثة بالية وكأنه يجمع تراث بلده واللا تراث للبلد المضيف،

حتى اليوم وأهل هذا البلد يفتّشون عن تراثهم وهم يقولون ضاع تراثنا ! سرقوا علومنا

تاجروا بآثارنا! وهم يدرون ولا يدرون أنهم بنوا قلاعهم فوق آثارهم ..

هذه الروايات الحزينة التي عرفتها بعد أن فقدت ذاك الرجل المسن بين شوارع الحيّ

الذي أسكن. كان يأتي وأنا ألعب مع أولاد الحرب، وعند سماع صراخ صغارنا من لكمات

نوجّهها إنتقاما من ضرب أهالينا لنا، وأنا ما كنت اضرب أحداً لكن يدي كانت تتوجه

بشكل عفويّ وطفوليّ على ردّ ضربات الأولاد الأكبر وهكذا…

وما أن يطلّ ذاك الرجل حتى أترك كلّ العالم الذي يتحرك ، لعب ولهو وأتوجّه إليه

وهو يقول لي:

الرجل: أتأخذيني إلى بلدي؟

أنا : أين هو بلدك يا عمّ؟

الرجل: بلدي هو بلد الحضارات وإسمه…

أنا: لو تدّلني على الطريق آخذك من يدك وأذهب بك؟

الرجل: أنا أعرف أين يقع لكن لا أستطيع المشي إلى هناك…

أنا: لماذا لا تريد المكوث هنا؟

الرجل: بلدكم لا يحب الغرباء وأنا لا أريد أن أموت هنا فأنتم تقتلون بعضكم بعضاً.

وبعد أن ذهب ذاك النهار أتى في النهار التالي وسألني نفس السؤال، فأحسست

بالمسؤوليّة وقلت له أنّي سأذهب لأجد بلده.

فتحتُ الخريطة في كتاب مدرستي وبحثتُ طويلاً وقرأت الحروف هجاء وعرفت كيفية

الوصول لكن بالنسبة لي على الخريطة اصبعان ونصل وفي الحقيقة قلت في نفسي:

” سوف أدلّه أنه خلف بيتي هناك طرق بالتأكيد سأرسم له الخريطة وهو كبير سيعرف الوصول…”

رسمت الخريطة كما هي كي لا يضيع وانتظرته طويلا يومان وأكثر ولعبت مع الاولاد

اكثر من العادة حتى باتت أمّي تقول أنها ستقطع لي قدماي وأنا صدّقت فخفت

وجلست في البيت ولكني بكيت جدا ماذا لو أتى وأراد الذهاب إلى بلده ولا يعرف اليه سبيلا؟

تسللت بعد أيام انتظره ولم يأتي… وضاع من ذاكرتي بعد أن ضاعت ورقة دياره!

علّمني أن أحترم المواعيد لانه كان ياتي في موعده

علّمني أن لا أنسى ثراث بلادي وأتكلم عنه بشجاعة وأن لا أخاف

وعلّمني أن أحبّ الجغرافية وأكره الحدود واعتبر أن الحيّ الذي خلف بيتنا

هو البلد الذي خلف بلدنا…

ما يبكيني اليوم عندما كبرت يا عمّي أنّه وفي بلدك اصبحوا يقتلون بعضهم البعض

فأنت أردت أن تهرب من هنا لهذا السبب… ماذا فعلوا بنا يا عمّي؟ ماذا فعلوا بنا؟

ماذا فعلوا بنا؟

ماذا فعلوا ويفعلون وسيفعلون بنا؟

بل ماذا نفعل نحن في أنفسنا؟

من هم ومن نحن؟ دائما نحن نتّهم الآخر ومن هو هذا الآخر؟

الجشِع؟ الشرير؟ المجرم؟ الكاذب، الوصوليّ، الإستغلالي، المحارب، القاتِل…؟

ومن قال انّي لست منهم وليسوا من أهلي؟؟

قلت لك يا عمّي انه في بلدك بدأت الحرب كما في بلدي ومن بدأ الحرب؟

الغرب أم الشمال أم الجنوب؟

من دفع ومن خطط هو المجرم الاول ومن نفّذ هو المجرم الثاني والثالث والأخير اليس كذلك؟

هو أبن بلدي وبلدك هو من يشتري السكاكر لأولاده! أيعقل ان له اولاد يحبّهم؟

وله زوجة يحبها وهل يُعقل ان تكون المنفّذة إمرأة مثلي كانت في الماضي طفلة

تنام مع لعبتها مثلي وتنام مع احلامها مثلي وتخاف الحرب مثلي

ماذا فعلنا في أنفسنا وماذا فعلوا بنا من غّيرنا وبدّلنا؟

إن الصفات السيّئة جميعها يمكن جمعها بكلمة ” شر” وكلمة ” شر” تبدأ بحرف تجمع

بينها وبين شيطان أرعن هو ليس اخرساً! يتكلّم كل لغات العالم ويعرف التكنولوجيا

ويقرأ كل الكتب السماوية والأرضية انه الشيطان المتكبّر على الله تعالى الله العليّ العظيم الأعلى من الكل

أقول لك ياعمّي وبعد كل تلك السنوات يرحمك الله في مسكنك اينما كنت ويرحم ابناءه

ويرحم المنفّذين الضائعين ويرجعهم اليه

فكلٌ منا يحتاج للرجوع لله العلى والى ثلاث امور:

أولاً: طلب التوبة

ثانيا: تذكُّر الطفولة

ثالثاً: لحظة مسامحة للغرب والشمال والجنوب والحكومات

فليتركوا العقاب للمولى العادل العليّ العظيم ولنعيش في سلام

ولنعيش في سلام على أرضٍ لن يكون فيها سلام أقلّه فيه شيطان متكبّر ولنترك

حرب الخير والشر بين الملائكة والشياطين ونحن نعرف المنتصر وندعو لإخوتنا

ان يسلكوا طريق السلام مع اله السلام، من قال عن نفسه “انه هو الطريق والحق والحياة” .